فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والعدول إلى {إن ربك} دون إنّ الله للإشارة إلى أن الّذي هو ربّه ومدبّر أمره لا يأمره إلا بما فيه صلاحه ولا يقدر إلاّ ما فيه خيره.
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)}
اعتراض بين جملة {فاصفح الصفح الجميل} [سورة الحجر: 85]، وجملة {ولقد آتيناك سبعًا} الآية.
أتبع التسلية والوعد بالمنّة ليذكر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنّعمة العظيمة فيطمئن بأنه كما أحسن إليه بالنّعم الحاصلة فهو منجزه الوعود الصادقة.
وفي هذا الامتنان تعريض بالردّ على المكذبين.
وهو ناظر إلى قوله: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} إلى قوله تعالى: {وإنا له لحافظون} [سورة الحجر: 9].
فالجملة عطف على الجمل السابقة عطف الغرض على الغرض والقصّة على القصّة.
وهذا افتتاح غرض من التنويه بالقرآن والتحقير لعيش المشركين.
وإيتاء القرآن: أي إعطاؤه، وهو تنزيله عليه والوحي به إليه.
وأوثر فعل {آتيناك} دون أوحينا أو أنزلنا لأن الإعطاء أظهر في الإكرام والمنّة.
وجَعْل {القرآن} معطوفًا على {سبعًا من المثاني} يشعر بأن السبع المثاني من القرآن.
وذلك ما درج عليْه جمهور المفسّرين ودلّ عليْه الحديث الآتي.
وقد وصف القرآن في [ورة الزمر:23]بالمثاني في قوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني} فتعين أن السبع هي أشياء تجري تسميتها على التأنيث لأنّها أجري عليها اسم عدد المؤنّث.
ويتعيّن أن المراد آيات أو سور من القرآن، وأن {مِن} تبعيضية.
وذلك أيضًا شأن {مِن} إذا وقعت بعد اسم عدد.
وأن المراد أجزاء من القرآن آيات أو سور لها مزية اقتضت تخصيصها بالذكر من بين سائر القرآن، وأنّ المثاني أسماء القرآن كما دلّت عليه آية الزّمر، وكما اقتضته {من} التبعيضية، ولكون المثاني غير السبع مغايرة بالكليّة والجزئية تصحيحًا للعطف.
و{المثاني} يجوز أن يكون جمع مُثَنّى بضم الميم وتشديد النّون اسم مفعول مشتقًا من ثَنّى إذا كرّر تكريرة.
قيل {المثاني} جمع مثناة بفتح الميم وسكون الثاء المثلّثة وبهاء تأنيث في آخره.
فهو مشتق من اسم الاثنين.
والأصح أن السبع المثاني هي سورة فاتحة الكتاب لأنّها يثنى بها، أي تعاد في كلّ ركعة من الصلاة فاشتقاقها من اسم الإثنين المراد به مطلق التكرير، فيكون استعماله هذا مجازًا مرسلًا بعلاقة الإطلاق، أو كناية لأن التّكرير لازم كما استعملت صيغة التثنية فيه في قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرّتين} [سورة الملك: 4]. أي كرّات وفي قولهم: لبّيْك وسعديك ودواليْك.
أو هو جمع مَثناة مصدرًا ميميًا على وزن المفعلة أطلق المصدر على المفعول.
ثم إن كان المراد بالسبع سبع آيات فالمؤتى هو سورة الفاتحة لأنها سبع آيات وهذا الذي ثبت عن رسول الله في حديث أبي سعيد بن المعلى وأبيّ بن كعب وأبي هُريرة في الصحيح عن رسول الله أن أمّ القرآن هي السبع المثاني فهو الأوْلى بالاعتماد عليه.
وقد تقدم ذلك في ذكر أسماء الفاتحة.
ومعنى التكرير في الفاتحة أنّها تكرّر في الصّلاة.
وعن ابن عبّاس: أن السبع المثاني هي السور السبع الطوال: أولاها البقرة وآخرها براءة.
وقيل: السور الّتي فوق ذوات المئين.
وعطْفُ القرآن على السبع من عطف الكل على الجزء لقصد التعميم ليعلم أن إيتاء القرآن كلّه نعمة عظيمة.
وفي حديث أبي سعيد بن المعلّى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالقرآنُ العظيم الّذي أوتيتُه» على تأويله بأن كلمة «القرآن» مرفوعة بالابتداء «والّذي أوتيتُه» خبره.
وأجري وصف {العظيم} على القرآن تنويهًا به.
وإن كان المراد بالسبع سورًا كما هو مروي من قول ابن عباس وكثير من الصّحابة والسّلف واختلفوا في تعيينها بما لا ينثلج له الصدر، فيكون إبهامها مقصودًا لصرف الناس للعناية بجميع ما نزل من سور القرآن كما أبهمت ليلة القدر. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق}.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق. اي ليدل بذلك على أنه المستحق لأن يعبد وحده، وأنه يكلف الحق ويجازيهم على أعمالهم.
فدلت الآية على أنه لم يخلق الخلق عبثًا ولا لعبًا ولا باطلًا، وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة، كقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} [ص: 27]، وقوله: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق} [الدخان: 38-39]. الآية، وقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى الله الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} [المؤمنون: 115-116]، وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} [النجم: 31]، وقوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى} [القيامة: 36-37]. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ}.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الساعة آتية، وأكد ذلك بحرف التوكيد الذي هو {إنَّ} وبلام الابتداء التي تزحلقها إن المكسورة عن المبتدأ إلى الخبر، وذلك يدل على أمرين:
أحدهما- إتيان الساعة لا محالة.
والثاني- إن إتيانها أنكره الكفار، لأن تعدد التوكيد يدل على إنكار الخبر، كما تقرر في فن المعاني.
وأوضح هذين الأمرين في آيات أخر. فبين أن الساعة آتية لا محالة في مواضع كثيرةة كقوله: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15]، وقوله: {وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور} [الحج: 7]، وقوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج: 1-2]. الآية، وقوله: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا الساعة} [الجاثية: 32]. الآية، وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون} [الروم: 12]، وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55]، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} [الأعراف: 187]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا.
وبين جل وعلا إنكار الكفار لها في مواضع أخر. كقوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]، وقوله: {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ} [التغابن: 7]، وقوله: {إِنَّ هؤلاء لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان: 34-35]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا.
قوله تعالى: {فاصفح الصفح الجميل}.
أمر الله جل وعلا نبيه عليه الصلاة والسلام في هذه الآية الكريمة أن يصفح عمن أساء الصفح الجميل.
أي بالحلم والإغضاء، وقال علي وابن عباس: الصفح الجميل: الرضا بغير عتاب، وأمره صلى الله عليه وسلم يشمل حكمه الأمة. لأنه قدوتهم والمشرع لهم.
وبين تعالى ذلك المعنى في مواضع أخر. كقوله: {فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89]. {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا} [الفرقان: 63]، وقوله: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} [القصص: 55]، وقوله: {فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]. الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
وقال بعض العلماء: هذا الأمر بالصفح منسوخ بآيات السيف، وقيل: هو غير منسوخ، والمراد به حسن المخالفة، وهي المعاملة بحسن الخلق.
قال الجوهري في صحاحه: والخلق والخلق: السجية، يقال: خالص المؤمن، وخالق الفاجر.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)}
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه الخلاق العليم، والخلاق والعليم: كلاهما صيغة مبالغة.
والآية تشير إلى أنه لا يمكن أن يتصف الخلاق بكونه خلاقًا إلا وهو عليم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء، إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه أن يخلقه.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79]، وقوله: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14]، وقوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، وقوله: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا} [الطلاق: 12]، وقوله تعالى مجيبًا للكفار لما أنكرو البعث وقالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 3]. مينًا أن العالم بما تمزق في الأرض من أجسادهم قادر على إحيائهم: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4]. إلى غير ذلك من الآيات.
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)}
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه آتى نبيه صلى الله عليه وسلم سبعًا من المثاني والقرآن العظيم، ولم يبين هنا المراد بذلك.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة إن كان لها بيان في كتاب اله غير واف بالمقصود، أننا نتمم ذلك البيان من السنة، فنبين الكتاب بالسنة من حيث إنها بيان للقرآن المبين باسم الفاعل. فإذا علمت ذلك فاعلم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بين في الحديث الصحيح: ان المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم في هذه الآية الكريمة: هو فاتحة الكتاب. ففاتحة الكتاب مبينة للمراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم، وإنما بينت ذلك بإيضاح النَّبي صلى الله عليه وسلم لذلك في الحديث الصحيح.
قال البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية الكريمة: حدثني محمد ين بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلي قال: مرَّ بي النَّبي صلى الله عليه وسلم وأنا أُصلِّي، فدعاني فلم آته حتَّى صلَّيت، ثمَّ أتيت فقال: «ما منعك أن تأتيني» فقلت: كنت أُصلِّي. فقال: «ألم يقل الله {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ}»- ثمَّ قال:- «إلا أعلمك أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن أخرج من المسجد» فذهب النَّبي صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرته فقال: «{الحمد لله رب العالمين} هي السَّبع المثاني والقرآن العظيم الَّذي أُوتيته».
حدثنا آدم حدثنا ابن ابي ذئب، حدثنا سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أّمُّ القُرآنِ هِي السَّبع المثاني والقرآن العظيم».
فهذا نص صحيح من النَّبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم: فاتحة الكتاب، وبه تعلم أن قول من قال إنها السبع الطوال غير صحيح، إذ لا كلام لأحد معه صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على عدم صحة ذلك القول: أن آية الحجر هذه مكية، وأن السبع الطوال ما أنزلت إلا بالمدينة، والعلم عند الله تعالى.
وقيل لها «مثاني» لأنها تثى قراءتها في الصلاة.
وقيل لها سبع لأنها سبع آيات.
وقيل لها {القرآن العظيم} لأنها هي أعظم سورة. كما ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المذكور آنفًا.
وإما عطف القرآن العظيم على السبع المثاني مع أن المراد بهما واحد وهو الفاتحة لما علم في اللغة العربية: من أن الشيء الواحد إذا ذكر بصفتين مختلفتين جاز عطف إحداهما على الأخرى تنزيلًا لتغاير الصفات منزلة تغاير الذوات، ومنه قوله تعالى: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى والذي أَخْرَجَ المرعى} [الأعلى: 1-4]، وقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)}
والحقُّ هو الشيء الثابت الذي لا تَعْتوره الأغيار، والمثَل هو نظام المجرَّات وحركة الشمس والقمر؛ تجدها مُنْضبِطة؛ ذلك أن الإنسان لا يتدخَّل فيها، وليس للإنسان- صاحب الأغيار- معه أيُّ اختيار.
ولذلك نجد أن الفسادَ لا ينشأ في الكون من النواميس العُلْيا، ولكن من الأمور التي يتدخَّل فيها الإنسان، وليس معنى ذلك أنْ يتوقفَ الإنسانُ عن الحركة في الأرض؛ ولكن عليه أنْ يرعى منهج الله، ويمتنع عَمَّا نهى عنه وأنْ يطيعَ ما أمره به.
وأنت لو طبَّقْتَ أوامر الحق سبحانه في افعل ولا تفعل لاستقامتْ الدنيا في الأمور التي لكَ دَخْل فيها كانتظام الأمور التي ليس لك دَخْل فيها.
واقرأ إنْ شِئْتَ قَوْله الحق: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ والسماء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 1-8].
فإن كنتم تريدون أن تنتظمَ أموركم في الحياة الدنيا؛ فلا تطغَوْا في ميزان أيِّ شيء.
وهنا يُذكِّرنا الحق سبحانه ألاَّ نقعَ في خطأ الوهم بأننا سنأخذ نِعَم الدنيا دون ضابط أو رابط؛ فالحساب قادم لا محالة، ولذلك قال الحق سبحانه: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 41-42].
أي: مَا قدّره الله سيقع دون أنْ يَصُدَّه شيء مهما كان، وإمَّا ترى ذلك في حياتك، أو تراه لحظة البَعْث.
والدليل هو ما حاق بمَنْ كفروا وظلموا وكذَّبوا الرسل، وعاثوا في الأرض مُفْسدين، وأهلكهم الحق سبحانه بعذابه تطهيرًا للأرض مِنْ فسادهم، هذا جزاؤهم في الدنيا، وهناك جزاء آخر في اليوم الآخر.
وفي هذا القول تَسلْية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو حين يُعْلِمه الله ما حاقَ بالأمم السابقة التي كذَّبت الرسل؛ هانتْ عليه المتاعب والمشاقّ التي عاناها من قومه، وليسهُلَ عليه من بعد ذلك أن يتذرَّع بالصبر الجميل، حتى يأتي وَعْدُه سبحانه، وليس عليك يا محمد أنْ تُحمّل نفسك ما لاَ تطيق.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)}
وقد جاء سبحانه هنا بالاسم الذي خلق به من عَدَم، وأمدَّ من عُدْم، وقيُّومية الربوبية هي التي تمدُّ كل الكون برزقه وترعاه؛ فسبحانه هو الذي استدعى الإنسان إلى الكون، وهو الذي يرعاهـ.
وكلمة: {رَبَّكَ} [الحجر: 86].
تُوحي بأنه إنْ أصابك شيءٌ بسبب دعوتك، وبسبب كنود قومك أمامك وعدائهم لك، فربُّكَ يا محمد لن يتركهم.
والرب كما نعلم هو مَنْ يتولَّى تربية الشي إلي ما يعطيه مناط الكمال، ولا يقتصر ذلك على الدنيا فقط، ولكنه ينطبق على الدنيا والآخرة.
وقوله: {الخلاق} [الحجر: 86].
مبالغة في الخَلْق، وهي امتداد صفة الخَلْق في كل ما يمكن أنْ يخلق، لأنه سبحانه هو الذي أعدَّ كل مادة يكون منها أيّ خَلْق، وأعدّ العقل الذي يُفكِّر في أيِّ خلق، وأعدَّ الطاقة التي تفعل، وأعدَّ التفاعل بين الطاقة والمادة والعقل المُخطَّط لذلك.